• 2021-08-17

تراتيل تفنّد الأكذوبة الكبرى

لا يرتاب دارس للإسلام أو مطّلع على مصادره، في أنّ القول بالدّين الإبراهيميّ العالميّ، الّذي يجمع الإسلام مع النّصرانيّة واليهوديّة تحت مظلّة واحدة، هو من أكذب الأقوال الّتي ظهرت في عصرنا ومن أضلّها.
إذ كيف يمكن الجمع بين من يرغب عن ملّة إبراهيم – كما ذكر القرآن – ومن يتّبع ملّته في إخلاص العبوديّة لله وحده، ووصفه سبحانه بكلّ كمال، وتنزيهه عن كلّ نقص؟
وكيف نصدّق من يزعم انتسابه إلى دين إبراهيم، والله تعالى – وهو أصدق القائلين – قد شهد بكذبهم، وبرّأ نبيّه إبراهيم منهم: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[آل عمران: 67]؟
بل كيف يُساوى بين من يؤمن بأنبياء الله جميعاً وهم المسلمون، ومن يفرّق بينهم فلا يؤمن إلاّ بأنبيائه وحده وهم اليهود والنّصارى؟
ولمّا زعم هؤلاء أنّ الهداية في اتّباع دينهما، أبطل الله قولهما، ثمّ أعقب ذلك بالتّأكيد على أنّ الهدى إنّما هو في التّمسّك بدين النّبيّ محمّد عليه الصّلاة والسّلام، فقال سبحانه: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ۖ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[البقرة: 137].
فكيف يجرؤ مسلم بعد ذلك على أن يعارض كلام الرّبّ عزّ وجلّ، ويساوي بين من ردّ الله دعواه بأنّه على ملّة إبراهيم، ومن شهد له سبحانه بأنّه الأحقّ بالانتساب إليه وهم أتباع إبراهيم في زمنه، ثمّ النّبيّ محمّد وأمّته، كما صرّح بذلك القرآن: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)[آل عمران: 68]؟
كلّ من أخذ نفسه بمؤازرة الحقّ وتأييده، ومقاومة الباطل وتفنيده، يأبى أن يدرج الإسلام مع غيره من الأديان تحت مظلّة واحدة، كالّتي اخترعوها ولفّقوها باسم "الدّين الإبراهيميّ العالميّ"، فلا يوجد دين عالميّ إلاّ دين واحد، هو دين النّبيّ الخاتم: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)[سبأ: 28]. أمّا باقي الأديان فهي لأقوام معيّنين ولفترات محدّدة، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الّذي لا ينطق عن الهوى: (أُعطيت خمساً لم يعطهنّ أحد قبلي) وذكر منها: (وكان النّبيّ يُبعث إلى قومه خاصّة وبُعثت إلى النّاس عامّة)[صحيح البخاريّ: 335].
فمن اعتقد صحّة اجتماع اليهوديّة والنّصرانيّة مع الإسلام في دين واحد، وأنّهما معه سواء، أو دعا إلى ذلك، فقد كفر برسالة محمّد عليه الصّلاة والسّلام وأنكر قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)[آل عمران: 19]، وقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة: 3].
إنّها أكذوبة خادعة وفرية بلا مرية، تلك الّتي يُروِّج لها البعض في هذه الأيّام، حين يعمد إلى دين بديل مركّب نسجته أوهام الشّياطين، ويحاول في إلحاح إشعارنا بأنّه الدّين الحقّ الّذي فيه خلاص الإنسانيّة من كلّ خطر، ونجاتها من كلّ شرّ، وذلك كلّه لن يعدو أن يكون سرابًا لا حقيقة له.
إنّي أشفق على هؤلاء الّذين يسعون جاهدين من أجل إرضاء المحتلّين، تارة بإقامة المعابد الفارهة لهم، وتارة بجمعهم مع المسلمين تحت مظلّة "الدّين الإبراهيميّ العالميّ" المزعوم، والنّتيجة من وراء هذه المحاولات ما قرّره علاّم الغيوب: (وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)[البقرة: 120].
إنّ الدّعوة إلى التّسامح وحوار الأديان لا تعني تمييع الإسلام من خلال دمجه مع اليهوديّة والنّصرانيّة في دين واحد، إنّه جهد ضائع، ومصيره الّذي سيؤول إليه محسوم سلفًا، وهو ما حكم به الرّبّ سبحانه: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[آل عمران: 85].
فما بال هؤلاء يضمّون قطعة من ثوب جديد إلى أخرى من ثوب عتيق ويخيّطونهما، ثمّ يعرضونهما للنّاس على أنّهما ثوب واحد وأجزاؤه متساوية من حيث الجودة والنّفاسة، ويحاولون ترويجه بينهم كي يُقبلوا على شرائه واقتنائه؟!
وإذا كان خصوم هذا الدّين قد غرّهم ما يرونه حاليًّا من ضعف المسلمين، ألا فليعلموا أنّ اصطناع دين جديد من هذا النّوع – الّذي تقرّ له أعين القوى المعادية للإسلام والمنظّمات الماسونيّة والصّهيونيّة على وجه الخصوص – هو أشبه ما يكون بالخرافة الّتي لا تنطلي على عاقل، وأنّ كلّ محاولة لتمييع هذا الدّين ستبوء بالفشل الذّريع لا محالة، لأنّ الله سبحانه قد تكفّل بنصره وإظهاره على سائر الأديان: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[التّوبة: 32-33]. فهذا ما نعتقده ونستيقن وقوعه، طال الزّمان أو قصر.
بمثل هذه الدّعوة الباطلة يحاول أعداؤنا إيقاف المدّ الإسلاميّ، الّذي يجتاح أوروبّا والعالم بأسره على الرّغم من ضعف أمّته، ويدفعون ببعض أبناء المسلمين إلى تبنّي هذه الفكرة باسم التّسامح والوسطيّة وحبّ السّلام، ولكنّهم لن يجنوا من ورائها إلاّ الخيبة، فإنّ للإسلام ربًّا يحميه ويبعث له في كلّ فترة مَنْ يجدّده وينصره. ولهذا فإنّه رغم كلّ المحن والأحقاد والجراحات الّتي طوّقت أمّته، إلاّ أنّ دين محمّد عليه الصّلاة والسّلام لم يزل يشقّ طريقه ويكسب كلّ يوم أنصارًا جددًا، حتّى غدا الأكثر انتشارًا من بين الأديان، وحتّى غدا اسم (محمّد) الأعلى نسبة بين مواليد أوروبّا في السّنوات الأخيرة، وما أروع ما قاله الشّيخ محمّد عبده في ردّه على هانوتو وزير خارجيّة فرنسا والكاتب كيمون، اللّذين شتما الإسلام ونبيّه وطالبا بهدم الكعبة وإبادة خُمْس المسلمين: (أما فليعلما وكلّ من يخدع نفسه بمثل حلمهما، أنّ الإسلام إن طالت به غيبة فله أوبة، وإن صدعته النّوائب فله نوبة)[الأعمال الكاملة للإمام الشّيخ محمّد عبده: 3/234].
ويومها سيدرك العالم أنّ ما يرجوه – وأفضل ممّا يرجوه – من خير وسعادة وأمان – إنّما يكمن في (دين محمّد) وحده لا غير.

آخر أخبار الشيخ د.خالد السعد

  • قاعدة (ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب) ونماذج من تطبيقاتها في الدّعوة والعمل الإسلامي

    2022-12-23

    هذه إحدى القواعد الفقهيّة الّتي يكثر تداولها في كتب الفقه ومصادره، ومفادها أنّ كلّ وسيلة لا يُتوصّل إلى فِعْل الواجب إلاّ بها فهي واجبة، لأنّ إيجاد الفعل المأمور به إذا توقّف على إيجاد شيء آخر كان هذا الشّيء واجباً، وكما أنّ وسيلة المحرّم محرّمة فكذل...

  • أمّة لا تعرف اليأس ولا الانكسار

    2022-05-19

    يمرّ عالمنا الإسلاميّ في هذه الحقبة من الزّمن بحوادث تقطّعت لها نياط القلوب، واستنزفت طاقات الأمّة، وتسبّبت في تعكير مشاعر المسلمين وأفكارهم، حتّى أصيب بعضهم بعقدة النّقص والدّونيّة واضطراب الشّخصيّة، وآخرون غلب عليهم الإحساس بالخيبة والإحباط وفقدان ...

  • التّعاهد على الطّاعات والقربات

    2021-10-16

    لم يخل جيل من أجيال هذه الأمّة المحمّديّة المباركة – الّتي أكرمنا الله تعالى بالانتساب إليها – من أصحاب المواقف الإيمانيّة، ومن أهل الصّلاح والدّعوة إلى المعروف، والإخلاص والحماسة للدّين. وفي هذا الجيل الّذي نحن فيه – حيث الفتن الّتي يرقّق بعضها بع...

  • ماذا يعني ارتداد الفنّانة الخليجيّة وتهوّدها؟

    2021-05-16

    أفلح الغزو الثّقافيّ في تلويث أفكار وعقول فئة من أبناء المسلمين، ولشدّة تأثيره صار البعض منهم ينقلب بين عشيّة وضحاها من الإيمان إلى الكفر، وهو ما حذّرنا منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حينما قال: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرّ...

  • كتاب (فقه السّنّة) وأثره في تفقيه شباب الصّحوة المعاصرة

    2020-02-01

    (هذا الكتاب يتناول مسائل من الفقه الإسلاميّ مقرونة بأدلّتها من صريح الكتاب وصحيح السّنّة، وممّا أجمعت عليه الأمّة، وقد عُرضت في يسر وسهولة، وبسط واستيعاب لكثير ممّا يحتاج إليه المسلم، مع تجنّب ذكر الخلاف إلاّ إذا وُجد ما يسوّغ ذكره فيشير إليه، والكتا...